الدرس الأول : مدخل إلى اللسانيات الحاسوبية:المفهوم،الموضوع والمرجعيات

       تعد دراسة اللغة العربية باستخدام الحاسوب أحدث الاتجاهات اللغوية في اللسانيات العربية المعاصرة . فالعصر الذي نعيشه  عصر التقنية بامتياز ،كيف لا والآلة شغلت  حيزا كبيرا في حياتنا بل وفي أدق جزيئات حياتنا ، فليس غريبا أن تتلقفها اللغة أيضا .

    فاللسانيات الحاسوبية علم بيني  يجمع بين اللسانيات والحاسوب ، فعندما نقول لسانيات فنحن نقصد  الصوت والصرف والتركيب والنص  والدلالة التي تعد الحلقة الأضعف في البرامج الحاسوبية  .

1.                تعريف اللسانيات الحاسوبية :   اللسانيات  الحاسوبية Computational Linguistics

 يحيل مصطلح اللسانيات الحاسوبية عادة إلى المجال الذي ترتبط فيه اللسانيات أو علوم للغة العربية للغة من اللغات الطبيعية تدخل في علم مخصوص وليد التطورات التكنولوجية المتقدمة ألا وهو اللسانيات الحاسوبية مجالها البحثي دقيق وجديد يعرض لآخر النظريات والتطبيقات الحاسوبية المجربة على جميع اللغات"[1]"

" دراسة علمية للغة الطبيعية من منظور حاسوبي، وهذه الدراسة لا يمكن أن تتم إلا ببناء برامج حاسوبية لأنظمة اللغات البشرية من خلال تقييس ومحاكاة نظام عمل الدماغ البشري لنظم عمل الحاسب الآلي "[2]. أطلقت  مجموعة من المصطلحات على اللسانيات الحاسوبية نتيجة اختلاف المنطلقات والمرجعيات والخلفيات، منها: اللغويات المعلوماتية،  وعلم حساب اللغة.

  فاللسانيات الحاسوبية هي العلم الذي يبحث   " " في اللغة البشرية كأداة طيعة لمعالجتها في الالة الحسابات الإلكترونية الكمبيوتر وتتألف من مبادئ هذا العمل من اللسانيات العامة بجميع مستوياتها التحليلية الصوتية النحوية والدلالية ومن علم الحاسبات الإلكترونية ومن علم الذكاء الاصطناعي وعلم المنطق ثم علم الرياضيات"[3].

2.       نشأة  اللسانيات الحاسوبية

تمَّ اختراع جهاز الحاسوب  في أَواخر النصف الأول من القرن المنصرم (القرن العشرين)، وتحديداً عام 1948م، وأصبح منذ ذلك التاريخ متاحاً للإفادة منه في جميع مجالات الحياة، ومختلف العلوم والمعارف الإنسانية.وتطورت تقنية هذا الجهاز عبر السنوات تطوراً مذهلاً، منذ ظهور الجيل الأول من الحواسيب الآلية سنة 1951م، وحتى ظهور الجيل الخامس منه سنة 1991م .

أما بدء استخدام الحاسوب في دراسة اللغة على مستوى العالم، فيصعب تحديده ؛ وذلك لأنه لم يحدث دفعة واحدة، بل تمَّ نتيجةً لمحاولات متفرقة، وعلى مراحل زمنية مختلفة، وفي دول متعددة.

والبداية الحقيقية لهذا العلم في الغرب جاءت بعد ظهور النظرية التوليدية التحويلية، التي قامت بتطبيق الأسس والمعادلات الرياضية على التحليل اللغوي، ومن ثَمَّ صياغة اللغة صياغة رياضية من أجل برمجتها في الحاسوب، وذلك بغرض استنباط قواعد مقننة ودقيقة . وإن كان هذا لا يمنع من القول إن المدرسة البنيوية قد مهدت الطريق أمام العلماء لربط الدراسات اللغوية بالحاسوب، لكنها لم تستطع بعد ذلك تطوير أفكارها لتساير ذلك المدّ التكنولوجي المتنامي .وتقوم اللسانيات الحاسوبية على جانبين رئيسين هما : الجانب النظري، والجانب التطبيقي. فأما الجانب الأول (النظري) فيبحث " في الإطار النظري العميق الذي به يمكننا أن نفترض كيف يعمل الدماغ الإلكتروني لحل المشكلات اللغوية"، وأما الجانب الآخر (التطبيقي) فهو يُعنَى " بالناتج العملي لنمذجة الاستعمال الإنساني للغة... وإنتاج برامج ذات معرفة باللغة الإنسانية "  .

فعلى المستوى الأمريكي يذكر الدكتور مايكل زار تشناك   (M.Zarechnak) أستاذ علم الدلالة ومنظم البرمجة اللسانية الآلية بجامعة جورج تاون، أن العمل في اللسانيات الآلية بدأ في قسم اللسانيات بجامعة جورج تاون سنة 1954م، وذلك في حقل الترجمة الآلية من اللغات الأخرى إلى الإنجليزية([4]). وهذا يعني أن بداية الخمسينيات من القرن الماضي شهدت ولادة المعالجة الآلية للغات البشرية.

أما على المستوى الأوروبي فأقدم محاولة لدراسة اللغة بوساطة الحاسوب تمَّت سنة 1961م، بجامعة قوتبرغ (Goteborg) السويدية، لكن هذه المحاولة ظلت ذات طابع محلي، ولم ترق إلى مستوى الذيوع والانتشار والتأثير في محيطها الأوروبي .

والبداية الفعلية لهذا الاتجاه كانت لمركز التحليل الآلي للغة بمدينة (قالارات Gallarat) بإيطاليا، الذي كان يشرف عليه روبارتوبوزا (Roberto Busa)، حيث وضع سنة 1962م الدعائم الأولى لاستخدام الحاسوب في دراسة اللغة .

ثم توالى بعد ذلك افتتاح المراكز الحاسوبية للغة في أوروبا والاتحاد السوفيتيي، كما هي الحال في المركز الحسابي لدراسة الأدب واللغة في جامعة كامبردج سنة 1964م، والمركز المعجمي بمجمع دالاكروسكا   (Dellacrusca) بإيطاليا سنة 1964م، ومعهد الألسنية التابع لمجمع العلوم بكيف في أوكرانيا (الاتحاد السوفييتي سابقاً) سنة 1964م – أيضاً- .

3.     أهداف اللسانيات الحاسوبية :

تهدف اللسانيات الحاسوبية، إلى  تلقين الحاسوب لغة بشرية تمكنه من التحاور مع الانسان شفهيا وكتابيا، ليصبح قادرا على فهم الكلام وإنتاجه وتوليده، مثل الدماغ البشري تماما.التفكير البشري ، الإنجاز البشري .

ü     التفكير البشري Le Pensé :

يحاول علماء الحاسوب بناء نظم قادرة على فهم اللغة الإنسانية وإنتاجها مثلما  يفعل الانسان. إلا أن الأمر لم يكن سهلا ؛ يقول سلفين سرسين Sylvain surcin : " كلما تقدمت خطوات استقصاء المعلوماتيين لأنماط انتظام المكونات اللغوية المختلفة ووقائعها المتنوعة، واستكشاف أبعاد اشتغالها المعقدة، كلما صادفتهم مشاكل عديدة تحطم رؤاهم الأولية، وتصوراتهم البسيطة التي كانوا يعتبرون اللغة بموجبها تكديساً من الأنظمة المتتالية والمستقلة عن بعضها البعض".[5]

عدم قدرة الحاسوب أو أي نظام آخر مهما بلغت قوته وسرعته، على التكافؤ مع الإنسان، إن لم يتأسس على تقييس (محاكاة)Simulation تام ودقيق للسلوك الإنساني.

– يقول نبيل علي – في المعمارية المقترحة لحاسوب الجيل الخامس ونظم تشغيله وتطبيقاته المستهدفة، " تأكد لنا الدور الرئيس الذي تلعبه اللغة في هذا المشروع الطموح، الذي يسعى في الدرجة الأولى إلى تطوير حاسوب لغوي في بنيته ونظامه وتطبيقاته، حاسوب ذكي قادر على التعامل اللغوي، تحليلا وتركيبا، يميز الأصوات ويولدها، ويحلل النصوص ويؤلفها، حاسوب منطقي ذي قدرة على توصيف المشاكل وحلها، والتأكد من صحة المعطيات، واستخلاص النتائج وإيجاد الحلول. إن نجاح العلماء والمهندسين في تطوير حواسيب ذكية سيفتح الباب على مصراعيه لكثير من التطبيقات اللغوية التي ظلت ولِوقْت قريب من قبل الخيال العلمي" [6]

والحقيقة أن للتقييس (المحاكاة) زمنا بدأ مع العلوم الدقيقة والتطبيقية خاصة في مجالي الهندسة والعلوم، فكان استعماله يقتصر على اختبار صلاحية فرضية ما عندما لايُتاح اختبار النظام الحقيقي. يقول الدكتور عادل عوض عن المحاكاة الحاسوبية: "بعد أن يجري تطوير نموذج رياضي ديناميكي لعملية ما، فإن المعادلات التي تشكل النموذج يجب حلها كي تسمح بتقدير سلوك العملية بالعلاقة مع الزمن. وعملية التطوير هذه تُعرف بالمحاكاة، ويمكن الوصول إليها باستعمال النموذج لاكتشاف تأثير الحالات المتغيرة في النظام الحقيقي"[7].

 ولذلك يقول  د. رؤوف وصفي: "ليس من المدهش أن علماء الحواسيب ربما يرغبون في دمج بعض خصائص الإنسان (التي يمكنها أن تؤدي نفس ما يقوم به الدماغ البشري من مهام ) في تصميم الحاسوب ". ولأهمية الرقاقة الحيوية وكيفية عملها ارتأينا أن نخصص لها هذا المحور:

 

 

أ- الرقاقة الحيوية:Bioship

أصبحت الرقائق الحاسوبية إحدى أهم السمات التي تميز الحضارة المعلوماتية في زماننا هذا، فهي موجودة في كل مكان حولنا، فكما تجدها في الحواسيب الشخصية، قد تجدها كذلك في الهواتف المحمولة والثلاجات والمكيفات... إن هذه الرقائق الدقيقة"الذكية" هي التي تقود المنطق الذي يسيطر على التقنيات العلمية الحديثة .[8]

 ب- الرقاقة الحيوية والجينوم البشري Ginome

 إن طبيعة العلاقة الكائنة بين "الرقائق الحاسوبية" و"الرقائق الحيوية" هي في حقيقة الأمر نفس العلاقة المفترضة بين الحواسيب وعلم الأحياء. إلا أن ما يُنتظر من الأولى هو محاولة دمج الرقائق الحيوية الممثلة بجدائل الحامض النووي الوراثي ADN؛ في رقائق الحاسوب على اعتبار أن هذا الحامض النووي جزيء يحتفظ أو يمتلك خصائص مميزة وسمات فارقة بين أصناف الكائن البشري. يوجد في نواة الخلية ويشفر المعلومات الوراثية، ويحتوي على كل التعليمات والبرمجة التي تسيطر على نمو وتطور وسلوك الخلايا الحية.  لذلك فإن اختياره هذا، لم يكن اعتباطيا أبدا؛ بل كان ذا مغزى عظيما. والدلائل العلمية أكدت نجاعته في غير ما مرة. كتحديد  هوية الأشخاص مثلا، عندما يُعرضون الرقاقة الحيوية لمحلول يحتوي على عينات من سلاسل مجهولة من جزيء الحامض النووي الوراثي، حيث ستلتصق جزيئات هذا الأخير الموجودة في خزان الرقاقة الحيوية بعينات الجدائل المحتوية على المتممة لها في نقطة محددة. وسيمكن هذا الإلتصاقُ العلماءَ من تحديد الخزانات التي يحدث فيها اتصال ثم معرفة مكان حدوثه. ومن ثم يُصبح بإمكانهم إعادة تشكيل الجدائل الطويلة للعينات وقراءتها وتفسيرها، فتوصف هذه العملية في نهاية المطاف بأنها’’ بحث عن كلمة’’ لأن كل جزيء يمثل كلمة "معروفة" كما أن كل عينة طويلة من الجزيئ تُعبر عن "جملة كاملة"، وبعد تحديد كل الكلمات الموجودة في الجملة، وترتيبها، يمكن للعلماء آنذاك من تفسير "الجملة" وفهم معناها[9].

ü     الإنجاز البشري Le performance

تهدف  اللسانيات الحاسوبية أيضا إلى محاولة محاكاة الإنجاز البشري عند قيامه بمجموعة من الوظائف والمهام المحوسبة أثناء استيعاب وفهم اللغة. إلا أن هذا الأمر لايتم إلا بعدما يتحقق الهدف الأول(التفكير البشري)  ؛ لأن سلامة الأداء مرتبطة بسلامة التفكير والذكاء.

يقول  مشال زكريا:" الأداء الكلامي هو الاستعمال الآني للغة ضمن سياق معين، يعود متكلم اللغة بصورة طبيعية إلى القواعد الكامنة ضمن كفايته اللغوية ، كلما استعمل اللغة في مختلف ظروف التكلم ، فالكفاية اللغوية ، بالتالي، هي التي تقود عملية الأداء الكلامي"[10]

 



[1] .رضا بابا أحمد ،اللسانيات الحاسوبية مشكل المصطلح والترجمة، - جامعة تلمسان – الجزائر - بلا تاريخ – ص2

[2]  عمر مهديوي ،  توليد الأسماء من الجذور الثلاثية الصحيحة في اللغة العربية - مقاربة لسانية حاسوبية - ج1،(2008)،   

     جامعة الحسن الثاني ، ص17

[3] عبد الرحمن بن حسن العارف ،توظيف اللسانيات الحاسوبية في خدمة الدراسات اللغوية العربية -جهود ونتائج– مجلة مجمع اللغة العربية الأردني– الأردن – عدد73 – 2007 – ص18

([4]) وردت هذه المعلومة في ندوة علمية عن اللسانيات الحاسوبية المعلوماتية، عقدت في قسم اللسانيات الحديثة بجامعة جورج تاون – واشنطن العاصمة، سنة 1983م، وأدارها الدكتور مازن الوعر، ونشرها بعد ذلك في كتابه: دراسات لسانية تطبيقية، ط1، دار طلاس، دمشق، 1989م، ص325  وللمزيد ينظر د.أحمد مختار عمر، صناعة المعجم الحديث، ط1، عالم الكتب، القاهرة، 1418هـ – 1998م، ص168 (هامش1) .

[5] مصطفى بوعناني،الفونولوجيات الحاسوبية والمسارات المعرفية للإنجاز الكلامي، ملفات معرفية،الملف الأول، ط1(2003)،ص5. 6

[6] نبيل علي ، اللغة العربية والحاسوب، مجلة عالم الفكر،العدد 3 ،المجلد 18 ( 1987 )، ص60

[7] عادل عوض ، تطبيقات النمذجة والمحاكاة الحاسوبية في الأنظمة البيئية-المائية،عالم الفكر ، العدد 3 ، المجلد 32، يناير –مارس 2004 ، ص 126.

[8]   ينظر . رؤوف وصفي ، قلب الكومبيوتر الحي، مجلة العربي ، العدد 543، فبراير 2004، ص146.

[9]   ينظر. المرجع نفسه ،ص150

[10]  - ميشال زكريا ، الألسنية التوليدية والتحويلية وقواعد اللغة العربية(النظرية الألسنية) ،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ،ط1 (1982)،ص33.